عبادة تحري ليلة القدر وقيامها
الحمد لله على نعمه الباطنة والظاهرة، شرع لعباده ما يصلحهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه نجوم الهدى الزاهرة، ومن اتبع هديه وتمسك بسنته الطاهرة.
أما بعد:
أولا: قال الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[1]
ثانيا: وعن ابي هريرة " رضي الله عنه " أيضاً قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"[2].
ثالثا: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحرى ليلة القدر ويأمر أصحابه بتحريها، وكان يوقظ أهله في ليالي العشر رجاء أن يدركوا ليلة القدر . وفي المسند عن عبادة مرفوعا : (من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) .
رابعا: وعن عائشة قالت: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: (قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) [3].
خامسا: وورد عن بعض السلف من الصحابة والتابعين والاغتسال والتطيب في ليالي العشر تحرياً لليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها. فيا من أضاع عمره في لا شيء، استدرك ما فاتك في ليلة القدر، فإنها تحسب من العمر، العمل فيها خير من العمل في ألف شهر سواها، من حُرِم خيرها فقد حُرم.
وهي في العشر الأواخر من رمضان، وهي في الوتر من لياليه الآخرة، وأرجى الليالي سبع وعشرين، لما روى مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه: (والله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، وهي ليلة سبع وعشرين). وكان أُبي يحلف على ذلك ويقول: (بالآية والعلامة التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
فتاوى وأقوال العلماء في ليلة القدر
أولا: شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:
1- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن ليلة القدر، وهو مُعْتَقل بالقلعة – قلعة الجبل – سنة ست وسبعمائة ؟
فأجاب: الحمد لله ليلة القدر في العَشْر الأواخر من شهر رمضان هكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هِي في العَشْر الأَوَاخِر مِن رَمَضَان"، وتكون في الوِتْر منها لكن الوتر يكون باعتبار الماضي، فَتُطْلَب ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين ويكون باعتبار ما بقي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لِتَاسِعَةٍ تَبْقَى، لِسَابِعَةٍ تَبْقَى لِخَامِسَةٍ تَبْقَى، لِثَالِثةٍ تَبْقَى"، فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليال الاشفاع . وتكون الاثنين وعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى . وهكذا فسَّره أبو سعيد الخدري في الحديث الصَّحيح وهكذا اقام النبي صلى الله عليه وسلم في الشهر وإن كان الشهر تسعاً وعشرين، كان التَّاريخ بالباقي . كالتاريخ الماضي . وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحرَّاها المؤمن في العَشْر الأواخر جميعه . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "تَحَرًُّوها في العَشْر الأَوَاخِر" . وتكون في السَّبْع الأَوَاخِر أكثر . وأكثر ما تكون ليلة سَبْع وعشرين كما كان أبي بن كعب يَحْلف: أنَّها سَبْع وعشرين . فقيل له : بأي شيء علمت ذلك ؟ فقال بالآية التي أخبرنا رسول الله ؛ أخْبَرَنا أَنَّ الشَّمْس تَطْلُع صُبْحة صَبْيحَتها كالطِّشت، لا شُعَاع لها ؛ فهذه العلامة التي رَوَاها أبي بن كعب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من أشهر العلامات في الحديث، وقد رُوي في علاماتها : "أنَّها ليلة بلجة منيرة" وهي سَاكِنة لا قَوية الحر، ولا قوية البَرد وقد يكشفها الله لبعض الناس في المنَام، أو اليقظة . فيرى أنوارها، أو يَرَى من يَقول له هذه ليلة القدر، وقد يفتح على قلبه من المُشَاهدة ما يتبين به الأمر . والله تعالى أعلم .
2- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن "ليلة القدر"، و "ليلة الإسراء" بالنَّبي صلى الله عليه وسلم أَيُّهما أفضل ؟
فأجاب: بأنَّ ليلة الإسراء أفضل في حَقِّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة، فحظ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- الذي اختص به ليلة المعراج منها أكمل من حَظِّه من ليلة القَدْر؛ وحظّ الأُمَّة من لَيْلة القَدْر أَكمل من حَظِّهم من ليلة المِعراج . وإن كان لهم فيها أعظم حظ . لكن الفَضْل والشَّرف والرُّتبة العليا إنما حَصَلت فيها، لمن أسري به صلى الله عليه وسلم.
3- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، أيُّهما أفضل ؟
فأجاب: أَيَّام عَشْر ذِي الحجة أَفْضَل من أَيَّام العشر من رمضان، والَّليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من لَيالي عشر ذي الحجة .
وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإحياء، التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم يُحْيِيها كُلّها-، وفيها ليلة خير من ألف شهر . فمن أجاب بغير هذا التَّفْصِيل، لم يُمْكنه أن يُدْلي بحجة صحيحة.
(من كتاب فتاوى رمضان)
ثانيا: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
1- سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: كيف يكون إحياء ليلة القدر؛ أفي الصلاة أم بقراءة القرآن والسيرة النبوية والوعظ والإرشاد والاحتفال لذلك في المسجد ؟
فأجابت: أولاً: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها بالصلاة والقراءة والدعاء، فروى البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-:"كَانَ إِذَا دَخَل العَشْر الأَوَاخِر أَحْيَا الَّليل وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ المِئْزَر" . ولأحمد ومسلم : "كان يَجْتَهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها" .
ثانياً: حثَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْر إِيماناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّم مِن ذَنْبَه"، رواه الجماعة إلا ابن ماجه، وهذا الحديث يدل على مشروعية إحيائها بالقيام.
ثالثاً: من أفضل الأدعية التي تقال في ليلة القدر ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم عائشة -رضي الله عنها-، فروى التِّرمذي وصَحَّحَهُ عن عائشة -رضي الله عنها- قالت، قُلت: يَا رَسُول الله، أرأيت إن علمت أي لَيْلة ليلة القَدْر ما أقول فيها ؟ قال : "قولي : اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوُّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" .
رابعاً: أما تخصيص ليلة من رمضان بأنها ليلة القدر فهذا يحتاج إلى دليل يعينها دون غيرها، ولكن أوتار العشر الأواخر أَحْرَى من غيرها والليلة السَّابعة والعشرون هي أ حرى الليالي بليلة القدر ؛ لما جاء في ذلك من الأحاديث الدَّالة على ما ذكرنا .
خامساً: وأما البدع فغير جائزة لا في رمضان ولا في غيره، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "مَنْ أَحْدَثَ فِي أمْرِنَا هّذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُو رَدُّ" ؛ وفي رواية : "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْه أَمْرُنَا فَهُو رَدُّ"، فما يفعل في بعض ليالي رمضان من الاحتفالات لا نعلم له أصْلاً، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
عضو الرئيس
عبدالله بن قعود رحمه الله عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله.
(من كتاب فتاوى رمضان)
ثالثا: معالي فضيلة الشيخ العلامة محمد الصالح العثيمين -رحمه الله-:
1- سئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -رحمه الله-: بعض الناس يقصدون ليلة القدر فيُحيُونها بالصلاة والعبادة ولا يحيون غيرها في رمضان، فهل هذا موافق للصواب ؟
فأجاب: لا، ليس بموافق للصواب، فإن ليلة القدر تنتقل، قد تكون ليلة سبع وعشرين، وقد تكون في غير تلك الليلة كما تدل عليه الأحاديث الكثيرة في ذلك، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إنه ذات عام أُري ليلة القدر فكان ذلك ليلة إحدى وعشرين"، ثم إن القيام لا ينبغي أن يخصه الإنسان بالليلة التي تُرجى فيها ليلة القدر، أو لا ينبغي أن يخصه في الليلة التي يرجو أن تكون هي ليلة القدر، فالاجتهاد في العشر الأواخر كلها من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان إذا دخل العشر شد المئزر وأيقظ أهله وأحيا الليل عليه الصلاة والسلام، فالذي ينبغي للمؤمن الحازم أن يجتهد في ليالي هذه الأيام العشر كلها حتى لا يفوته الاجر
2- سئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -رحمه الله-: اعتاد بعض المسلمين وصف ليلة سبع وعشرين من رمضان بأنها ليلة القدر، فهل لهذا التحديد أصل، وهل عليه دليل ؟
فأجاب: نعم لهذا التحديد أصل وهو أن ليلة سبع وعشرين أرجى ما تكون ليلة القدر كما جاء ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه . ولكن القول الراجح من أقوال أهل العلم التي بلغت فوق أربعين قولاً أن ليلة القدر في العشر الأواخر ولا سيما في السبع الأواخر منها، فقد تكون ليلة سبع وعشرين، وقد تكون ليلة خمس وعشرين، وقد تكون ليلة السادس والعشرين، وقد تكون ليلة الرابع والعشرين ولذلك ينبغي للانسان أن يجتهد في كل الليالي، حتى لا يحرم من فضلها وأجرها، فقد قال الله تعالى : "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ"، [ الدخان : 3 ]، وقال عز وجل : "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَ مَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقّدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)، [ القدر : 1 – 5 ].
3- سئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -رحمه الله-: ما هي علامات ليلة القدر ؟
فأجاب: من علامات ليلة القدر أنها ليلة هادئة وأن المؤمن يَنْشَرحُ صدره لها، ويطمئن قلبه، وينشط في فعل الخير، وأن الشَّمس في صباحها تطلع صافية ليس لها شعاع.
(من كتاب فتاوى رمضان)
رابعا: سماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخ:
(...أخي المسلم: ثم اعلم أنَّ سلفنا الصالحَ أئمةَ العلم والهدى إذا وُفِّقوا للأعمال الصالحة، فعملوها إخلاصًا ومتابعة، فإنهم لا يأمنون على أنفسهم، لا ـ والله ـ سوءَ ظنٍّ بربّهم، حاشا وكلا، فهم على ثقةٍ من ربهم، أنَّ الله لا يضيع عملَ العاملين: (فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ)، [آل عمران:195]، لكن يخشون أن يؤتَوا من قبَل أنفسهم، من ضعفٍ في الإخلاص، وعدم مبالاة بالعمل، ولذا قال الله في حقِّهم
وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبّهِمْ رٰجِعُونَ)، [المؤمنون:60]، أحسَنوا العملَ، وأخلصوا في العمل، ثم خافوا على هذا العمل أن يأتيَه ما يكدِّر صفوَه، أو ينزعه والعياذ بالله، في حديث ابن مسعود: "إن أحدَكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبِق عليه الكتاب، فيعملُ بعمل أهل النّار فيدخلها، وإن أحدَكم ليعمل بعمَل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينَه إلا ذراع، فيسبقُ عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها))، فالأعمال بالخواتيم، فسلوا الله خاتمةً حميدة، سلوه التوفيقَ والهداية، سلوه الثباتَ على الحق والاستقامةَ على الطريق المستقيم. قلوبنا ـ معشر العباد ـ بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبُها كيف شاء، إذا أراد أن يقلّب قلبَ عبد قلبه: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ)، [آل عمران:8].
معشر المسلمين: هذه الجمعة الرابعة من شهر رمضان، هذه الليالي والأيام المباركة، هذه السبع البواقي من شهر رمضان، هذه الليالي يُرجى أن يكونَ في ظلِّ لياليها ليلة القدر، تلك الليلةُ التي عظَّم الله شأنَها، ورفع ذكرَها، ونوَّه بها في كتابه العزيز، تلك الليلةُ العظيمة التي جعل الله العملَ الصالحَ فيها خيرًا من العمل في ألفِ شهرٍ سواها ليس فيها ليلةُ القدر، هذه الليلةُ المباركة التي رفع الله ذكرَها وشرَّفها وعظَّمها، وجعلها ليلةَ تقديرٍ للآجال والأرزاق والأعمال، حكمةً من الربّ، وربُّك حكيم عليم؛ بيَّن الله فضلَها في موضعين من كتابه العزيز فقال جل جلاله: (إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مّنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ)، [الدخان:3-6]. إنها ليلةٌ مباركة، وأعظمُ بركتِها على الأمة ابتداءُ نزول هذا القرآن العظيم الذي أنزله الله في ليلة القدر في شهر رمضان: (شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ)، [البقرة:185]. إنها ليلةٌ يُعطى فيها الملائكةُ الموكَّلون بأمر العباد ما سيكون في مثلها إلى العام القادم، يعطَون عن أمِّ الكتاب ما سيكون من الأرزاق والآجال، من الأمور التي قدَّرها الله وقضاها على كمال حكمته ورحمته وعلمه وعدله، وربك حكيم عليم؛ (إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ* لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ* سَلَـٰمٌ هِىَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ) [سورة القدر]. تنزَّل الملائكةُ وهم عبادٌ مكرَمون مطيعون لربهم: (لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، [الأنبياء:27]، (يُسَبّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ)، [الأنبياء:20]، ينزِلون إلى الأرض، وإنما ينزلون بالخير والرحمة والبركة، وإمامُهم جبريل عليه السلام، وهذه الليلة ليلةُ سلامٍ لكثرة ما يُعتِق الله فيها من النار، وكثرةِ ما تنال هذه الأمةُ من بركاتِ هذه الليلة وفضائلها؛ نبينا اعتكفَ العشرَ الوسطى من رمضان، فلما أُخبر أنَّها في العشر الأخيرة اعتكف العشر الأخيرة من رمضان تحريًا والتماسًا لهذه الليلة، هي ليلة عظيمةٌ مباركة، ذاتُ شرف وفضلٍ وقيمة عظيمة، من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه، من حُرم خيرَ هذه الليلة فقد حُرم الخيرَ الكثير.
أيها المسلمون، ليالي بقيَّة هذا الشهر ليالٍ مباركة، ليالٍ فيها إجابةُ الدعاء، ليالٍ فيها الخير الكثير، ليالٍ مباركة. فيا أيها المسلم، إياك أن تفوتك تلك الفضائل، ارفع أكفّ الضراعة لربِّك، فربّك حكيم عليم، وربّك غفور رحيم، مهما بلغت ذنوبُنا، مهما كثُرت أوزارنا، مهما تعدَّد خطؤنا، مهما انغمسنا فيما انغسمنا من الإجرام، إلا أن ربَّنا غفور رحيم، إلا أن ربَّنا توابٌ لمن تاب إليه، إلا أن ربَّنا من كمال جودِه وفضله يحبّ من عباده أن يتوبوا إليه، يحبّ منهم أن يُقبلوا إليه، يحبّ منهم أن يستغفِروه، يحبُّ منهم أن يعتذروا من خطئهم وزللهم، وربك أرحم الراحمين. "كتب في كتاب موضوعٍ عند العرش: إنَّ رحمتي سبقَت غضبي))، يدعوكم لأن تسألوه، فتح بابَه للسائلين، وتعرَّف بكمال جودِه للطالبين: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، [البقرة:186]، (ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ)، [الأعراف:55، 56]. سلُوا الله العفوَ والعافية، سلوا اللهَ الثباتَ على الحق، سلوا اللهَ الاستقامةَ على الأعمال الصالحة، سلوا اللهَ لآبائكم وأمهاتِكم المغفرةَ والرضوان، سلوا اللهَ لذرياتكم الصلاحَ والهداية، سلوا الله لمجتمعكم التوفيقَ والسداد، ولولاتِكم العونَ والتأييد على كل خير، سلوا اللهَ أن يحفظَ عليكم إسلامَكم، ويحفظَ عليكم نعمَه عليكم، فلا إله إلا الله، ما أعظمَ فضلَه، وما أعظمَ كرمَه، وما أعظمَ جودَه لمن قويَ إيمانه وعظم يقينه. أسأل الله أن يختم لي ولكم بخاتمة خَير، وأن يختم لنا رمضانَ بالحسنى، وأن يجعلَنا فيه من الموفَّقين للعمل الصالح، إنَّه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم...)
(من خطبة لسماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخ بعنوان: " ليلة القدر ")
خامسا: معالي فضيلة الشيخ الدكتور صالح الفوزان:
فضل ليلة القدر والحث على الاجتهاد فيها:
قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)، وهي في شهر رمضان المبارك لقوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)، وترجى في العشر الأواخر منه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) متفق عليه، فينبغي الاجتهاد في كل ليالي العشر طلبًا لهذه الليلة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)، وأخبر تعالى أنها خير من ألف شهر وسميت ليلة القدر لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة . لقوله تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)، وهو التقدير السنوي، وهو التقدير الخاص، أما التقدير العام فهو متقدم على خلق السماوات والأرض كما صحت بذلك الأحاديث، وقيل سميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها ومعنى قوله تعالى : "خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ"، أي قيامها والعمل فيها خير من العمل في ألف شهر خالية منها، وطلبها في أواخر العشر آكد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث بقين أو سبعين بقين أو تسع بقين"، وليلة سبع وعشرين أرجاها لقول كثير من الصحابة إنها ليلة سبع وعشرين . منهم ابن عباس وأبي بن كعب وغيرهما - وحكمة إخفائها ليجتهد المسلمون في العبادة في جميع ليالي العشر، كما أخفيت ساعة الإجابة من يوم الجمعة ليجتهد المسلم في جميع اليوم، ويستحب للمسلم أن يكثر فيها من الدعاء، لأن الدعاء فيها مستجاب ويدعو بما ورد (عن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله: إن وافقتها فيم أدعو قال : قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) رواه أحمد وابن ماجه .
فيا أيها المسلمون اجتهدوا في هذه الليلة المباركة بالصلاة والدعاء والاستغفار والأعمال الصالحة فإنها فرصة العمر، والفرص لا تدوم، فإن الله سبحانه أخبر أنها خير من ألف شهر، وألف الشهر تزيد على ثمانين عامًا، وهي عمر طويل لو قضاه الإنسان كله في طاعة الله . فليلة واحدة وهي ليلة القدر خير منه، وهذا فضل عظيم، وهذه الليلة في رمضان قطعًا وفي العشر الأخير منه آكد، وإذا اجتهد المسلم في كل ليالي رمضان فقد صادف ليلة القدر قطعًا ورجي له الحصول على خيرها ؛ فأي فضل أعظم من هذا الفضل لمن وفقه الله . فاحرصوا رحمكم الله على طلب هذه الليلة واجتهدوا بالأعمال الصالحة لتفوزوا بثوابها فالمحروم من حرم الثواب . ومن تمر عليه مواسم المغفرة ويبقى محملاً بذنوبه بسبب غفلته وإعراضه وعدم مبالاته فإنه محروم ؛ أيها العاصي تب إلى ربك واسأله المغفرة فقد فتح لك باب التوبة، ودعاك إليها وجعل لك مواسم للخير تضاعف فيها الحسنات وتمحى فيها السيئات فخذ لنفسك بأسباب النجاة ... والحمد لله رب العالمين ... وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .) .أ.هـ
(من كتاب إتحاف أهل الإيمان لفضيلة الشيخ الدكتور صالح الفوزان)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
[1] سورة القدر، الايات :1-3 .
[2] أخرجه البخاري ومسلم.
[3] رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.